بحـث
المواضيع الأخيرة
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
أبوالفحفاح11 | ||||
ام جهاد | ||||
التيدوم | ||||
mantboha | ||||
المتخصص للتدريب | ||||
الفايز | ||||
vaizamariem | ||||
tarwan | ||||
sidati20072 | ||||
اليم |
سبينوزا: فيلسوف التنوير الأول
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
سبينوزا: فيلسوف التنوير الأول
سبينوزا هو فيلسوف التنوير قبل أن يظهر التنوير كحركة فكرية شاملة أو كتيار ضخم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فقد عاش وكتب في النصف الثاني من القرن السابع عشر، أي قبل مائة عام من ظهور فولتير، وديدرو، وروسو، وكانط وسواهم.. وكان قد واجه رجال الدين قبلهم وفي ظروف أشد صعوبة وخطورة. بهذا المعنى فهو الرائد الأول في صحراء شاسعة من الفكر حيث لم يكن أحد حوله لكي يدلّه على الطريق، لكي يتفهّم همومه، أو يتواصل معه.
ينبغي العلم بأن الأب مالبرانش كان أحد تلامذة ديكارت، مثله في ذلك مثل سبينوزا. وكان موقفه من المعجزات الواردة في الإنجيل يشبه موقف سبينوزا ولكنه لا يخلص إلى نفس النتيجة. فهو لا يعتبر أن المعجزة مستحيلة الحصول على الرغم من تعارضها مع قوانين الفيزياء والطبيعة. وأما بالنسبة لسبينوزا فإن كل التصورات الخيالية الواردة في الكتابات المقدسة وكل القصص والحكايات الخارقة للعادة فإنها مستخدمة فقط كوعاء، أو كأداة ناقلة للوحي، ولا قيمة لها بحد ذاتها وإنما قيمتها في التعاليم الأخلاقية أو الروحية التي تحتويها أو ترمز عليها. وهكذا استبق سبينوزا أحدث النظريات المعاصرة فيما يخص تفسير الإنجيل. وهي النظرية المدعوة بنزع الأسطرة عن الإنجيل والتي قال بها عالم اللاهوت الألماني المتحرر رودولف بولتمان (1884-1976). وكان أستاذاً لتفسير العهد الجديد في جامعة ماربورغ بألمانيا.
وتتلخص نظريته الشهيرة فيما يلي: أن قصص المعجزات الواردة في الإنجيل كالمشي على الماء وبرء الأعمى وسوى ذلك ما هي إلا أساطير، أي حكايات ما قبل علمية. وكانت هي الوسيلة الوحيدة آنذاك لتصور العالم أو لتفسير ظواهره الطبيعية كما كانت الوسيلة الوحيدة لإقناع الناس الذين تسيطر عليهم العقلية الخيالية أو الأسطورية في ذلك الزمان. فالعلم الحديث لم يكن قد نشأ بعد والعقلية السائدة كانت بدائية. وبالتالي فالأسطورة كانت تشكل في العصور القديمة، أي قبل ظهور العلم الحديث، الوسيلة لفهم الوجود البشري أو للتعبير عنه. ولكننا لم نعد بحاجة إليها الآن في عصر العلم والعقل. وبالتالي فبامكاننا أن ننظف الإنجيل من هذه العقلية الأسطورية لكي نتوصل إلى نواته الأخلاقية الحقيقية المختبئة وراء تراكمات الأساطير.
يضاف إلى ذلك أن المعجزة ليست مجانية: فهي ترمز إلى شيء معين، أو إلى تهذيب أخلاقي أو قيمة روحية. ونحن لسنا مضطرين للاقتناع بها ولخرقها لنظام الطبيعة وقوانين الكون لكي نكون مؤمنين. فمن الواضح أننا نعيش الآن في عصر العلم والقوانين الفيزيائية والكيميائية ولم نعد قادرين على تصديق الحكايات التي تقول بأن المسيح كان يبعث الموتى من قبورهم أو يشفي الأعمى بمجرد أن يمرّر يده أمام عينيه أو يمشي على الماء... لسنا مجبرين على تصديق كل ذلك الآن لكي نكون مؤمنين حقيقيين كما كانت تفعل الأجيال السابقة. وإنما يكفي أن نفهم المغزى الكائن وراء المعجزة أو القيمة التي ترمز إليها. وهي قيمة إنسانية تتعاطف مع الأعمى أو المريض أو الفقير المنبوذ أو المرأة المخطئة الخ.. وهذا هو معنى نزع الأسطورة عن الإنجيل: إنه يعني تقديم قراءة عقلانية له، قراءة تليق بعصرنا أو بوعي معاصرينا الذي أصبح مغموساً بالعقلية العلمية وبخاصة في أوروبا. كل هذا استبق عليه سبينوزا بمائتي سنة على الأقل.. وهنا تكمن عظمته أو عبقريته المدهشة بالنسبة لنا.
يحصل كل ذلك كما لو أنه رأى بأم عينيه ما سوف يستجدّ في القرون المقبلة. ففي رأيه إن الكتابات المقدسة لا تقدم لنا معرفة عقلانية عن الأمور والظواهر، وإنما لها قيمة عملية فقط. وبالتالي فلا ينبغي أن نطالبها بما لا تستطيع تقديمه. إنها تقدم لنا فقط التعاليم الأخلاقية التي تهدينا في سلوكنا الحياتي وتؤدي إلى نجاة روحنا في الدار الآخرة. وإذا ما اعترفنا بأن الكتابات المقدسة تحتوي على كلام الله، فإنه ينبغي أن نلخص هذا الكلام بالشرع الإلهي. وهذا الشرع يأمر بشيء أساسي: محبة الله والآخرين. هكذا يلخص سبينوزا الدين كله بعبارة واحدة. ولا يعتبر ذلك اختزالاً عقلانياً للدين. فالنصوص المقدسة نفسها تقول بأن الشرع الإلهي مطبوع في قلب الإنسان. هذا ما نجده في العهد القديم، وهذا ما أكَّد عليه المسيح في العهد الجديد عندما دعا إلى محبة الجار أو الآخر ومعاملته كما نحب أن نُعامَل نحن. هكذا نجد أن الدين، بالنسبة إلى سبينوزا، هو التعامل الأخلاقي مع الآخرين لا أكثر ولا أقل. ولكن لا علاقة للدين بالفكر النظري أو بالتفسير العقلاني لظواهر الطبيعة والكون. فهذه الأشياء من اختصاص العلم الفيزيائي لا الدين. إنها من اختصاص الفلسفة والعقل.
على هذا النحو تمكن سبينوزا من فصل الفلسفة عن اللاهوت وتحديد مجال خاص لكل منهما لا يتعداه داعيا إلى عدم الخلط بينهما كما يفعل التوفيقيون أو التلفيقيون. فللدين مجاله، وللعقل مجاله. وهكذا حرَّر الفلسفة من هيمنة علم اللاهوت المسيحي الذي كان يقمعها طيلة العصور السابقة ويعتبرها خادمة له. ففي رأي سبينوزا، وهو رأي حديث جداً، فإن الفكر الفلسفي يمارس عمله في مجال خارجي كلياً على مجال الإيمان. وإذا ما أخضعنا الفلسفة للإيمان أو للدين فإنها تختنق فوراً، أو تذبل وتموت. والدليل على ذلك ما حصل في عالم الإسلام أو في عالم المسيحية الأوروبية القروسطية قبل أن ينتصر التنوير لاحقا.
هذا لايعني أن سبينوزا كان ملحداً أو كافراً كما تقول الصورة العنيدة الشائعة عنه. فالواقع أنه كان مؤمناً، ولكن بالمعنى الواسع للكلمة: أي بالمعنى الذي يتجاوز نطاق دين محدد بعينه. فهو يتحدث عن الدين الحقيقي بالنسبة للجنس البشري كله، وليس فقط بالنسبة لليهود أو للمسيحيين. وهذا الدين الكوني الذي ينطبق على جميع البشر يتمثل في العقائد التالية: الله موجود، عنايته تشمل كل شيء، إنه قادر على كل شيء، وأمره يقضي بسعادة الإنسان الطيب، وتعاسة الإنسان الشرير، أي بمكافأة المحسن ومعاقبة المذنب. ثم إن نجاتنا في الدار الآخرة تتوقف على نعمته وفضله ومدى فعلنا للخير. يضاف إلى ذلك المبدأ الأساسي التالي: ينبغي أن نحب الله والآخرين وأن نتعامل معهم بشكل مستقيم ونزيه كما نحب أن نُعامَل نحن... هذا هو دين سبينوزا ملخَّصاً في كلمات معدودات. في الواقع، إن هذا التصور يشبه عقيدة الدين الطبيعي التي بلورها فلاسفة الإنجليز ثم أخذها فولتير عنهم في القرن الثامن عشر. وكان الهدف من بلورة هذا التدين الطبيعي (أو العقلاني) هو مكافحة التدين الأصولي أو التعصب الطائفي الذي كان يضرب بأطنابه في كل أنحاء أوروبا آنذاك. فإيمان اللاهوتيين أو رجال الدين كان هو إيمان التعصب وبثّ الفرقة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين، أو حتى داخل المسيحيين أنفسهم من كاثوليكيين أو بروتستانتيين...
تبقى نقطة أساسية ينبغي أن نضيفها هنا لكي تكتمل الصورة. في الواقع إن العقيدة المعروضة هنا تخلَّى عنها سبينوزا في كتابه اللاحق "الأخلاق". فتصور الله على أساس أنه قاض أو سيد مهيمن هو تصور خيالي مرفوض تماماً في الكتاب المذكور لأنه يعني تشبيه الله بالإنسان أو بالصفات الإنسانية. نقول ذلك ونحن نعلم أن سبينوزا راح يبلور تصوراً آخر مختلفاً عن الله في كتابه الفلسفي الأساسي. إنه تصور يطابق بين الله وكلية ما هو موجود، أي كلية الطبيعة وقوانين الطبيعة. ولكنه تبنى التصور العقائدي السابق لكي يصل إلى عقول الملايين من البشر المؤمنين بوجود اله شخصي والذين لا يفهمون الله إلا بهذه الطريقة. فالعامة لا تفهم إلا عن طريق التشبيه والتشخيص. في الواقع إن الإيمان بالمعنى التقليدي للكلمة ضروري فقط للعامة، وأما النخبة المثقفة أو الفلسفية فلها طريق آخر يرضيها ويكفيها هو: طريق الغبطة الفلسفية. بمعنى آخر فإن الدين يكفي للعامة، والفلسفة خصصت للنخبة، ولا ينبغي الخلط بينهما. فالنخبة المفكرة يكفيها العقل كهادٍ ودليل، وليست بحاجة إلى كتب مقدسة أو وحي خارق للعادة أو معجزات... إنها قادرة عن طريق العقل على التوصل إلى الحقيقة من جهة وإلى اتباع الفضيلة والاستقامة في سلوكها اليومي من جهة أخرى.
على مدار كتابه "مقالة في اللاهوت السياسي" نلاحظ أن سبينوزا يفترض الشيء الأساسي التالي: ولكن هل كان هو شخصياً يعتقد بأن الله تجلّى للأنبياء؟ هل كان يعتقد بإمكانية حصول الوحي الخارق للعادة؟ إنه على الأقل يعترف بأنه لا يعرف كيف حصل الوحي بالفعل. ففي رأيه إنه عبارة عن ظاهرة خارقة للطبيعة، ظاهرة حصلت في خيال بعض البشر ممن ندعوهم بالأنبياء. وهم أناس يتحلّون بتقى وورع وأخلاقية عالية. ولكن على الرغم من ذلك فإن الوحي لا يرتقي في نظره إلى مستوى المعرفة الفلسفية العقلانية. يضاف إلى ذلك أنه ليس مفيداً إلا بالنسبة لأولئك الذين لا يستطيعون فهم هذه المعرفة أو الارتفاع إلى مستواها: أي ليس ضروريا إلا لعامة البشر. هكذا نجد أن سبينوزا قلب الأمور عاليها سافلها. فلأول مرة في تاريخ الفكر يظهر شخص لكي يقول لنا بأن الفلسفة تعلو على الوحي! وكنا قد تعلمنا على مدار العصور السابقة بأن الوحي هو الذي يعلو على كل شيء. ولكن يقال بأن الفارابي سبقه إلى ذلك. مهما يكن من أمر ولكي يرضي سبينوزا أصدقاءه المسيحيين الليبراليين الذين كانوا يحمونه من المتطرفين ويساعدونه ماديا فإنه راح يعترف بوجود شكل من أشكال الوحي يعلو على الوحي المعروف. كيف ذلك؟ وما معنى هذا الوحي الأعلى أو ذو المرتبة العليا؟ يعتقد سبينوزا بأن موسى وعيسى يرتفعان فوق جميع أنبياء التوراة. وبالتالي فالوحي الذي خصا به كان أهم. صحيح أن الأنبياء كلهم كانوا رؤويين: بمعنى أنهم كانوا يرون ما لا يُرى وقادرين ببصيرتهم على كشف أعماق الغيب. وهذه خاصية لا يتمتع بها الناس العاديون. فخيال الأنبياء وحدهم قادر على التواصل مع الاستلهام الإلهي.
ولكن موسى عرف تواصلاً أعلى أو وحياً أعلى عندما تجلّى الله له وجهاً لوجه. إنه كليم الله كما جاء في القرآن. وكان ذلك فضلاً استثنائياً خصَّه الله به دون غيره. بل وأُتيح لموسى أن يتحدث مع الله قليلاً... وهذا ما لم يحصل لبشري قط. أما عيسى فكان حظه أعظم! فالله ذاته تحدث من خلاله أو بفمه. لقد انصهر الله فيه أو تجسد في شخصه. لقد شهد الله حقيقة عن طريق وحي مباشر وكان على تواصل عقلي وذهني معه. وبهذا المعنى، يقول سبينوزا، فإن حكمة الله التي تتفوق على كل حكمة بشرية راحت تتجسد في المسيح على هيئة طبيعة بشرية.
ينبغي العلم بأن الأب مالبرانش كان أحد تلامذة ديكارت، مثله في ذلك مثل سبينوزا. وكان موقفه من المعجزات الواردة في الإنجيل يشبه موقف سبينوزا ولكنه لا يخلص إلى نفس النتيجة. فهو لا يعتبر أن المعجزة مستحيلة الحصول على الرغم من تعارضها مع قوانين الفيزياء والطبيعة. وأما بالنسبة لسبينوزا فإن كل التصورات الخيالية الواردة في الكتابات المقدسة وكل القصص والحكايات الخارقة للعادة فإنها مستخدمة فقط كوعاء، أو كأداة ناقلة للوحي، ولا قيمة لها بحد ذاتها وإنما قيمتها في التعاليم الأخلاقية أو الروحية التي تحتويها أو ترمز عليها. وهكذا استبق سبينوزا أحدث النظريات المعاصرة فيما يخص تفسير الإنجيل. وهي النظرية المدعوة بنزع الأسطرة عن الإنجيل والتي قال بها عالم اللاهوت الألماني المتحرر رودولف بولتمان (1884-1976). وكان أستاذاً لتفسير العهد الجديد في جامعة ماربورغ بألمانيا.
وتتلخص نظريته الشهيرة فيما يلي: أن قصص المعجزات الواردة في الإنجيل كالمشي على الماء وبرء الأعمى وسوى ذلك ما هي إلا أساطير، أي حكايات ما قبل علمية. وكانت هي الوسيلة الوحيدة آنذاك لتصور العالم أو لتفسير ظواهره الطبيعية كما كانت الوسيلة الوحيدة لإقناع الناس الذين تسيطر عليهم العقلية الخيالية أو الأسطورية في ذلك الزمان. فالعلم الحديث لم يكن قد نشأ بعد والعقلية السائدة كانت بدائية. وبالتالي فالأسطورة كانت تشكل في العصور القديمة، أي قبل ظهور العلم الحديث، الوسيلة لفهم الوجود البشري أو للتعبير عنه. ولكننا لم نعد بحاجة إليها الآن في عصر العلم والعقل. وبالتالي فبامكاننا أن ننظف الإنجيل من هذه العقلية الأسطورية لكي نتوصل إلى نواته الأخلاقية الحقيقية المختبئة وراء تراكمات الأساطير.
يضاف إلى ذلك أن المعجزة ليست مجانية: فهي ترمز إلى شيء معين، أو إلى تهذيب أخلاقي أو قيمة روحية. ونحن لسنا مضطرين للاقتناع بها ولخرقها لنظام الطبيعة وقوانين الكون لكي نكون مؤمنين. فمن الواضح أننا نعيش الآن في عصر العلم والقوانين الفيزيائية والكيميائية ولم نعد قادرين على تصديق الحكايات التي تقول بأن المسيح كان يبعث الموتى من قبورهم أو يشفي الأعمى بمجرد أن يمرّر يده أمام عينيه أو يمشي على الماء... لسنا مجبرين على تصديق كل ذلك الآن لكي نكون مؤمنين حقيقيين كما كانت تفعل الأجيال السابقة. وإنما يكفي أن نفهم المغزى الكائن وراء المعجزة أو القيمة التي ترمز إليها. وهي قيمة إنسانية تتعاطف مع الأعمى أو المريض أو الفقير المنبوذ أو المرأة المخطئة الخ.. وهذا هو معنى نزع الأسطورة عن الإنجيل: إنه يعني تقديم قراءة عقلانية له، قراءة تليق بعصرنا أو بوعي معاصرينا الذي أصبح مغموساً بالعقلية العلمية وبخاصة في أوروبا. كل هذا استبق عليه سبينوزا بمائتي سنة على الأقل.. وهنا تكمن عظمته أو عبقريته المدهشة بالنسبة لنا.
يحصل كل ذلك كما لو أنه رأى بأم عينيه ما سوف يستجدّ في القرون المقبلة. ففي رأيه إن الكتابات المقدسة لا تقدم لنا معرفة عقلانية عن الأمور والظواهر، وإنما لها قيمة عملية فقط. وبالتالي فلا ينبغي أن نطالبها بما لا تستطيع تقديمه. إنها تقدم لنا فقط التعاليم الأخلاقية التي تهدينا في سلوكنا الحياتي وتؤدي إلى نجاة روحنا في الدار الآخرة. وإذا ما اعترفنا بأن الكتابات المقدسة تحتوي على كلام الله، فإنه ينبغي أن نلخص هذا الكلام بالشرع الإلهي. وهذا الشرع يأمر بشيء أساسي: محبة الله والآخرين. هكذا يلخص سبينوزا الدين كله بعبارة واحدة. ولا يعتبر ذلك اختزالاً عقلانياً للدين. فالنصوص المقدسة نفسها تقول بأن الشرع الإلهي مطبوع في قلب الإنسان. هذا ما نجده في العهد القديم، وهذا ما أكَّد عليه المسيح في العهد الجديد عندما دعا إلى محبة الجار أو الآخر ومعاملته كما نحب أن نُعامَل نحن. هكذا نجد أن الدين، بالنسبة إلى سبينوزا، هو التعامل الأخلاقي مع الآخرين لا أكثر ولا أقل. ولكن لا علاقة للدين بالفكر النظري أو بالتفسير العقلاني لظواهر الطبيعة والكون. فهذه الأشياء من اختصاص العلم الفيزيائي لا الدين. إنها من اختصاص الفلسفة والعقل.
على هذا النحو تمكن سبينوزا من فصل الفلسفة عن اللاهوت وتحديد مجال خاص لكل منهما لا يتعداه داعيا إلى عدم الخلط بينهما كما يفعل التوفيقيون أو التلفيقيون. فللدين مجاله، وللعقل مجاله. وهكذا حرَّر الفلسفة من هيمنة علم اللاهوت المسيحي الذي كان يقمعها طيلة العصور السابقة ويعتبرها خادمة له. ففي رأي سبينوزا، وهو رأي حديث جداً، فإن الفكر الفلسفي يمارس عمله في مجال خارجي كلياً على مجال الإيمان. وإذا ما أخضعنا الفلسفة للإيمان أو للدين فإنها تختنق فوراً، أو تذبل وتموت. والدليل على ذلك ما حصل في عالم الإسلام أو في عالم المسيحية الأوروبية القروسطية قبل أن ينتصر التنوير لاحقا.
هذا لايعني أن سبينوزا كان ملحداً أو كافراً كما تقول الصورة العنيدة الشائعة عنه. فالواقع أنه كان مؤمناً، ولكن بالمعنى الواسع للكلمة: أي بالمعنى الذي يتجاوز نطاق دين محدد بعينه. فهو يتحدث عن الدين الحقيقي بالنسبة للجنس البشري كله، وليس فقط بالنسبة لليهود أو للمسيحيين. وهذا الدين الكوني الذي ينطبق على جميع البشر يتمثل في العقائد التالية: الله موجود، عنايته تشمل كل شيء، إنه قادر على كل شيء، وأمره يقضي بسعادة الإنسان الطيب، وتعاسة الإنسان الشرير، أي بمكافأة المحسن ومعاقبة المذنب. ثم إن نجاتنا في الدار الآخرة تتوقف على نعمته وفضله ومدى فعلنا للخير. يضاف إلى ذلك المبدأ الأساسي التالي: ينبغي أن نحب الله والآخرين وأن نتعامل معهم بشكل مستقيم ونزيه كما نحب أن نُعامَل نحن... هذا هو دين سبينوزا ملخَّصاً في كلمات معدودات. في الواقع، إن هذا التصور يشبه عقيدة الدين الطبيعي التي بلورها فلاسفة الإنجليز ثم أخذها فولتير عنهم في القرن الثامن عشر. وكان الهدف من بلورة هذا التدين الطبيعي (أو العقلاني) هو مكافحة التدين الأصولي أو التعصب الطائفي الذي كان يضرب بأطنابه في كل أنحاء أوروبا آنذاك. فإيمان اللاهوتيين أو رجال الدين كان هو إيمان التعصب وبثّ الفرقة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين، أو حتى داخل المسيحيين أنفسهم من كاثوليكيين أو بروتستانتيين...
تبقى نقطة أساسية ينبغي أن نضيفها هنا لكي تكتمل الصورة. في الواقع إن العقيدة المعروضة هنا تخلَّى عنها سبينوزا في كتابه اللاحق "الأخلاق". فتصور الله على أساس أنه قاض أو سيد مهيمن هو تصور خيالي مرفوض تماماً في الكتاب المذكور لأنه يعني تشبيه الله بالإنسان أو بالصفات الإنسانية. نقول ذلك ونحن نعلم أن سبينوزا راح يبلور تصوراً آخر مختلفاً عن الله في كتابه الفلسفي الأساسي. إنه تصور يطابق بين الله وكلية ما هو موجود، أي كلية الطبيعة وقوانين الطبيعة. ولكنه تبنى التصور العقائدي السابق لكي يصل إلى عقول الملايين من البشر المؤمنين بوجود اله شخصي والذين لا يفهمون الله إلا بهذه الطريقة. فالعامة لا تفهم إلا عن طريق التشبيه والتشخيص. في الواقع إن الإيمان بالمعنى التقليدي للكلمة ضروري فقط للعامة، وأما النخبة المثقفة أو الفلسفية فلها طريق آخر يرضيها ويكفيها هو: طريق الغبطة الفلسفية. بمعنى آخر فإن الدين يكفي للعامة، والفلسفة خصصت للنخبة، ولا ينبغي الخلط بينهما. فالنخبة المفكرة يكفيها العقل كهادٍ ودليل، وليست بحاجة إلى كتب مقدسة أو وحي خارق للعادة أو معجزات... إنها قادرة عن طريق العقل على التوصل إلى الحقيقة من جهة وإلى اتباع الفضيلة والاستقامة في سلوكها اليومي من جهة أخرى.
على مدار كتابه "مقالة في اللاهوت السياسي" نلاحظ أن سبينوزا يفترض الشيء الأساسي التالي: ولكن هل كان هو شخصياً يعتقد بأن الله تجلّى للأنبياء؟ هل كان يعتقد بإمكانية حصول الوحي الخارق للعادة؟ إنه على الأقل يعترف بأنه لا يعرف كيف حصل الوحي بالفعل. ففي رأيه إنه عبارة عن ظاهرة خارقة للطبيعة، ظاهرة حصلت في خيال بعض البشر ممن ندعوهم بالأنبياء. وهم أناس يتحلّون بتقى وورع وأخلاقية عالية. ولكن على الرغم من ذلك فإن الوحي لا يرتقي في نظره إلى مستوى المعرفة الفلسفية العقلانية. يضاف إلى ذلك أنه ليس مفيداً إلا بالنسبة لأولئك الذين لا يستطيعون فهم هذه المعرفة أو الارتفاع إلى مستواها: أي ليس ضروريا إلا لعامة البشر. هكذا نجد أن سبينوزا قلب الأمور عاليها سافلها. فلأول مرة في تاريخ الفكر يظهر شخص لكي يقول لنا بأن الفلسفة تعلو على الوحي! وكنا قد تعلمنا على مدار العصور السابقة بأن الوحي هو الذي يعلو على كل شيء. ولكن يقال بأن الفارابي سبقه إلى ذلك. مهما يكن من أمر ولكي يرضي سبينوزا أصدقاءه المسيحيين الليبراليين الذين كانوا يحمونه من المتطرفين ويساعدونه ماديا فإنه راح يعترف بوجود شكل من أشكال الوحي يعلو على الوحي المعروف. كيف ذلك؟ وما معنى هذا الوحي الأعلى أو ذو المرتبة العليا؟ يعتقد سبينوزا بأن موسى وعيسى يرتفعان فوق جميع أنبياء التوراة. وبالتالي فالوحي الذي خصا به كان أهم. صحيح أن الأنبياء كلهم كانوا رؤويين: بمعنى أنهم كانوا يرون ما لا يُرى وقادرين ببصيرتهم على كشف أعماق الغيب. وهذه خاصية لا يتمتع بها الناس العاديون. فخيال الأنبياء وحدهم قادر على التواصل مع الاستلهام الإلهي.
ولكن موسى عرف تواصلاً أعلى أو وحياً أعلى عندما تجلّى الله له وجهاً لوجه. إنه كليم الله كما جاء في القرآن. وكان ذلك فضلاً استثنائياً خصَّه الله به دون غيره. بل وأُتيح لموسى أن يتحدث مع الله قليلاً... وهذا ما لم يحصل لبشري قط. أما عيسى فكان حظه أعظم! فالله ذاته تحدث من خلاله أو بفمه. لقد انصهر الله فيه أو تجسد في شخصه. لقد شهد الله حقيقة عن طريق وحي مباشر وكان على تواصل عقلي وذهني معه. وبهذا المعنى، يقول سبينوزا، فإن حكمة الله التي تتفوق على كل حكمة بشرية راحت تتجسد في المسيح على هيئة طبيعة بشرية.
التيدوم- المدير التوجيهي
- عدد المساهمات : 843
نقاط : 3401
تاريخ التسجيل : 23/04/2009
رد: سبينوزا: فيلسوف التنوير الأول
موضوع رائع ..
تقبل تحياتي / منت بوها ..
تقبل تحياتي / منت بوها ..
mantboha- مراقب عام
- عدد المساهمات : 682
نقاط : 3052
تاريخ التسجيل : 15/07/2009
العمر : 35
الموقع : بلا موقع مزلت انكوس ..
رد: سبينوزا: فيلسوف التنوير الأول
شكرا منت بوه على المرور
التيدوم- المدير التوجيهي
- عدد المساهمات : 843
نقاط : 3401
تاريخ التسجيل : 23/04/2009
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين يوليو 08, 2024 4:31 am من طرف دورات
» المراجعة المالية والإدارية لضمان سلامة الأداء المالي والإداري||دورت تدريبية
الإثنين يوليو 08, 2024 3:55 am من طرف دورات
» دورة الأساليب الحديثة لتنشيط العملية التسويقيه وزيادة المبيعات دورات التسويق
الجمعة مارس 15, 2024 5:34 am من طرف دورات
» دورات تدريبية|دورة التخطيط الاستراتيجي للتسويق
الخميس مارس 14, 2024 4:33 am من طرف دورات
» دورة السيطرة على التلوث البحري بالبترول|| metc
الثلاثاء مارس 12, 2024 5:41 am من طرف دورات
» دوره تنفيذ وإداره حلول سيسكو-CCNA/القاهره 2024
الأربعاء مارس 06, 2024 1:28 pm من طرف المتخصص للتدريب
» دوره تنمية المهارات الإدارية والاشرافية لرؤساء الاقسام/الخبر-القاهره 2024
الثلاثاء فبراير 20, 2024 6:11 pm من طرف المتخصص للتدريب
» دورات المشتريات والمخازن واللوجستيك 2024
السبت فبراير 17, 2024 5:02 am من طرف دورات
» دورات التدقيق|دورة تقنيات المراجعة والتدقيق الداخلي لضمان سلامة الاداء المالي
الخميس فبراير 15, 2024 3:52 am من طرف دورات